#1
|
|||
|
|||
((لا تطغوا في الميزان))
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. موضوعنا هو: (لا تطغوا في الميزان). لقد طغت الدنيا واشرأبت الأعناق نحو المستقبل، وعامت على السطوح فقاعات من الأهواء، وقباب من زجاج رقيق يشف عن الترهات واللهاث وراء المظاهر والمادة المتجردة عن الإنسانية، ما سبّب الاختلال الواضح في الميزان، وأدى إلى فساد كبير، وإلى اقتتال وحروب ومجاعات وسباق نحو التسلح والقوة العسكرية، فما الميزان ميزان المادة فقط، إنما هو أيضاً كل شيء وقعت عليه العيون، أو أدركته الأبصار، أو خلقه الله - عز وجل - في هذه الدنيا ولم نعلمه أو نراه، إنه الميزان بين الدنيا والآخرة، إن صلحت الآخرة عند العبد صلحت الدنيا بالضرورة، وإن فسدت الآخرة عند العبد فسدت الدنيا، ولو جاءت مبهرجة وباتت ساطعة مستنيرة، إنه ميزان الرؤيا وميزان الصلاح والفساد. قال الله - تعالى-: ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (41) سورة الروم، هؤلاء شياطين الإنس، هؤلاء الذين يدعون الحضارة، هؤلاء الذين يزعمون أن الحق في الدنيا فيما شرعوا من القوانين الوضعية لا غير، هؤلاء الذين يزينون للناس زخرف الدنيا، ويعيثون في الأرض فساداً، هؤلاء الذين ينعمون بأفكارهم المنحرفة عن الصواب، ويضعون عليها زينة ومعارج ولها يعبدون، قال الله - تعالى-: (عاملة ناصبة* تصلى ناراً حامية)(الغاشية). فلينظر الإنسان إلى مقعده من الآخرة من خلال مقعده من الدنيا، ودلالاته من الرضى عن النفس وعن السلوك وعن اتباع المنهج السليم، ومن خلال النية والمقاصد والسريرة والبعد عن الأحقاد والضغائن والكبائر والشرك والإلحاد، وليكن فيه الرجاء كبيراً، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث القدسي: ((أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خير منهم، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة...) أخرجه البخاري ومسلم، وقد قال الله - تعالى -في كتابه الكريم: (إن المتقين في جنات ونهر* في مقعد صدق عند مليك مقتدر)(القمر). ونعرف أنْ ليس للإنسان إلا ما عمل، وليس له إلا ما سعى، وله في الآخرة إن أفلح الفوز الكبير والربح الأعظم، قال - تعالى-: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير)(البروج) وآيات الله كثيرة في وصف الجنة وما فيها. وليت الإنسان يعلم قصة فوزه والانتماء إلى هذه المقاعد الطيبة في الآخرة، ولكن الإنسان لا يعرف ما هو المكتوب إلا أنه يعمل ويعمل ويرجو رحمة ربه، والرجاء دواء ناجع في تربية النفوس وتزكية السرائر. والتقوى أساس الوصول إلى هذا المقعد، وليس الجاه والنسب والانتماء والحزبية والقبلية، فالمقعد الكبير الواسع العالي عند رب السموات والأرض رب العرش العظيم محجوز لهؤلاء الذين صنعوا أنفسهم وزكّوها وغسلوها وعملوا عملاً صالحاً باحتساب وإخلاص. والموضوع جدي وخطير، ولا مفر من الحياة إلا إلى الموت ثم البرزخ ثم الآخرة، قال الله - تعالى-: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)(الذاريات) آيات الله ظاهرة للعيان، وواضحة لكل عباد الله ممن عبد الله أو من لم يعبده. قال - تعالى -: ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) (10) سورة لقمان. وقال - تعالى -: ( اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (2) سورة الرعد. وقال أيضاً: (آل عمران): ( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) (191) سورة آل عمران على الرغم من كل هذه الآيات تأخذنا الدنيا إلى تلك الكهوف المليئة بالأهداف الوقتية، والأهواء الطاغية، والشهوات المنتظرة، والمادة التي تعطي للإنسان دون شك رونقاً، لكنه رونق مؤقت زائل لا محالة، ونقول أنه لا جدال في: (ولا تنس نصيبك من الدنيا) ويجب على الإنسان الترفع عن الأهواء المفرطة حتى لا يقع في حفر المادية البحتة، ويتقوقع في حمى اللهاث وراء غبار لا يلبث أن ينقضي ويهرب، قال الله - تعالى -: (إن الذين لا يرجون لقاءنا وفرحوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها..)(يونس) الاطمئنان إلى الدنيا كليـّاً من صفات هؤلاء الذين وصفهم الله - تعالى -بطول الأمل دون رؤية الحق والنهاية المحتومة، قال الله - تعالى-: ( {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (3) سورة الحجر فما بال الإنسان يقرأ ويفهم ويعرف الحق ثم يحيد عنه، وما بال الإنسان يدري أن الله موجود ويشرك به أو يجعل له أنداداً من مخلوقاته، ندعوك يا رب العالمين أن تصرف عن السوء والآثام. يا رب إني في الأنام دقيقةٌ *** أمضي وعندي كثرة الآثام وأراك يا ربي بعين بصيرتي *** عدلاً رؤوفاً والجنان أمامي والركب يدنو من بوادر صحوتي *** الكون يومئ والرسول إمامي والزاهرات تلألأتْ وسط الدجى *** نوراً يضيء مسالك الأجرام والنفس مذ ظمئت تلوذ برحمة *** من ربها ذي المنِّ والإكرام يا رب أنت الملتجى لقلوبنا *** أَذهبْ غلالة شكوتي وظلامي اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ومن الذين عاهدوك على الحق فأوفوا، اللهم اجعلنا من الذين ثقلت موازينه في الآخرة، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |
|
|