#1
|
|||
|
|||
الحساب
الحساب الخطبة الأولى عباد الله.. إن من مواقف يوم القيامة موقف عظيم جدا، موقف كلنا سيقفه، وكلنا سيمر عليه، هذا الموقف سيحدد مكانك يوم القيامة، إما إلا جنة عرضها السموات والأرض أو إلى عذاب جهنم والعياذ بالله، ألا وهو موقف الحساب. الحساب عباد الله أمره مهول، ويومه يوم عصيب طويل؛ في ذلك اليوم يجمع الله الناس في صعيد ليأخذوا النتيجة والصحيفة، يحدثنا رسولنا صلى الله عليه وسلم عن ذلك اليوم ويذكر أن الناس يحشرون حفاة عراة غرلا؛ تسمع عائشة بهذا الأمر تتعجب فتتساءل يا رسول الله النساء والرجال جميعا ينظر بعضهم إلى بعض! قال صلى الله عليه وسلم: ((يا عائشة، الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض)). لك أن تتأمل الناس كلهم في وجل وخوف واضطراب، الشمس فوق رؤوسهم قريبة، والعرق قد غطا أجزاء من أبدانهم وأخرون قد عرقوا في عرقهم، كلٌ حسب عمله وحسب إخلاصه وتوحيده في هذه الحياة الدنيا. وعندما يشتد الأمر بالناس ويعظم بهم الكرب في هذا الموقف العظيم يتجهون إلى رسل الله عليهم السلام ليشفعوا لهم عند ربهم بأن يبدأ معهم الحساب لما لاقوا من شدة وضنك. فيأتون رسل الله الواحد تلو الآخر، وكل رسول يحيلهم على من بعده، حتى يأتوا نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم، فيشفع فيهم، وهذه هي الشفاعة العظمى الخاصة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم من بين سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، وهي من المقام المحمود الذي وعد به الرسول عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى: ((وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا)). حدثنا ربنا عن مشهد الحساب والجزاء في يوم الحساب فقال: ((وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون))، وحسبنا أن نعلم أن القاضي والمحاسب في ذلك اليوم هو الحكم العدل قيوم السموات والأرض ليتبين لنا عظم هذا المشهد وجلاله ومهابته ((هل ينظرون إلا أن يأتهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور)) والآية تبين لنا مجيء الملائكة، فهو موقف جليل تحضره ملائكة الرحمن بكتب العباد، وهو كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. ويؤتى بالعباد الذين عقد الحق محكمته العظيمة لمحاسبتهم، ويقامون صفوفا للعرض على رب العباد ((وعرضوا على ربك صفا)) ويؤتى بالمجرمين منهم وهم الذين كذبوا الرسل، وتمردوا على ربهم، واستعلوا في الأرض مقرنين في الأصفاد، مسربلين بالقطران ((وترى المجرمين يؤمئذ مقرنين في الأصفاد، سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار، ليجزى الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب)). ولشدة الهول تجثوا الأمم على الركب عندما يدعى الناس للحساب لعظم ما يشاهدون، وما هم فيه واقعون ((وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون)). ثم نعرض على ربنا ليتولى سبحانه وتعالى حسابنا بنفسه بدون وساطة ولا ترجمان، عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر عن شماله فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فلا يرى إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة))، فإن كان من أهل النجاة ـ وهو الذي يؤتى كتابه بيمينه ـ تجاوز الله عن ذنوبه ولم يناقشه الحساب وأدخله الجنة ولم يعذبه بالنار، فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا من هؤلاء، وأما من كثرت معاصيه ـ والعياذ بالله ـ وأوتي كتابه بشماله فذلك الذي يناقش الحساب، ويسأل عن كل صغيرة وكبيرة، فقد حدثت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك))، فقلت: يا رسول الله، أليس قد قال الله: ((فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا)) [الانشقاق:7، 8]؟! فقال رسول الله r: ((إنما ذلك العرض، وليس أحدٌ يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب)). والمراد بالمناقشة الاستقصاء في المحاسبة والمطالبة بالجليل والحقير وترك المسامحة، كما ذكر صاحب الفتح. وأول ما يحاسب عليه العبد من حقوق الله تبارك وتعالى الصلاة، فإن صلحت أفلح وأنجح وإلا خاب وخسر، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيئا، قال الرب تبارك وتعالى: انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل بها ما نتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك)). صحيح الجامع. وبعد أن يُوقف العبد على أعماله يُعطى كتابه، فإن أعطي كتابه بيمينه طار فرحا إلى الناس مسرورا، يقول سبحانه: ((فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ، إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ، فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ، قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ)) [الحاقة:19-24]، يفرح هذا المؤمن الذي أُعتق من النار؛ لأنه عامر بالخيرات، فيه الإيمان، وفيه التوحيد، وفيه اتباع سنة أفضل المرسلين صلى الله عليه وسلم، فيه إقامة الصلوات في أوقاتها، فيه إيتاء الزكاة والحج والصوم، فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيه بر الوالدين والإحسان إلى الناس، فيه كل هذه الخيرات التي استحق صاحبها أن يأخذ كتابه بيمينه. وأما عن الشقي فيقول الله سبحانه: ((وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ، وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ، يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ ، مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ، خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ، إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ، وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ، فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ ، وَلا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ ، لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ)) [الحاقة:25-37]، يبكي هذا الشقيّ ويتمنى لو أنه لم يؤتَ هذا الكتاب، فهو كتاب مليء والعياذ بالله بالشرك والفسق والفجور وترك الصلوات وتأخيرها ومنع الزكاة والبدعة والغيبة والنميمة والتكبر والتجبر والاستهزاء بالناس وأكل الحرام وغير ذلك، يكون نتيجة هذا كله أن يعطى كتابه بشماله، هذا الكتاب الذي يحوي كلّ أمر فعلتَه ـ أيها الإنسان ـ في قديم الزمان وحديثه، في صغرك وكبرك، أمور تذكُر بعضَها ونسيتَ بعضًا، لكن الله أحصاها ولم ينسها، ((يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه فيا فوز المستغفرين. الخطبة الثانية أما بعد عباد الله في ذلك اليوم تشهد الأرض بما عُمل عليها من خير وشر قال عز وجل: ((إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا ، وَأَخْرَجَتْ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا ، وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا ، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ، يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه)) [سورة الزلزلة]، فقد ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا)) فقال: ((أتدرون ما أخبارها؟))، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، أن تقول: عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا ـ قال: ـ فهذه أخبارها)). ومما يشهد على الإنسان في ذلك اليوم أعضاءه قال تعالى: ((وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ، حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ، وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ)) وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يقول العبد يوم القيامة: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى، فيقول: إني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، وبالكرام الكاتبين شهودا، فيختم على فيه ـ أي: يمنع من الكلام ـ ويقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله، ثم يخلّى بينه وبين الكلام فيقول: بعدًا لكُنَّ وسحقا، فعنكن كنت أناضل)). عباد الله هذا موقف من مواقف يوم القيامة وهو موقف عظيم كلنا سيقف بين يدي ربه ليحاسبه ويقرره بذنوبه، فأعد لذلك اليوم عدته من العمل الصالح الخالص لله عز وجل الموافق لهدي الحبيب صلى الله عليه وسلم وابتعد عن المعاصي والظلم وأنواع الشرور، لتنجوا في ذلك اليوم العظيم. اللهم يسر حسابنا ويمن كتابنا،،،، |
|
|