|
#1
|
|||
|
|||
بحث مسألة الصعق واللطم وشق الثياب عند سماع الذكر
الصَّعق: وهو الغُشِيّ عند سماع القرآن والذِّكر، والوعظ المؤثِّر، فهذا غالب ما ذُكِر ونُقِلَ منه إلينا كما قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة - رَحِمَهُ اَللَّهُ تَعَالَى- "إنما هو من عُبَّاد أهل البصرة"، ذَكَرَ هذا شيخ الإسلام ابن تيميَّة في المجلد الحادي عشر من "الفتاوى" في أوَّله، فهذا غالب ما نُقِلَ لنا عن عبَّاد أهل البصرة في عصر التَّابعين، مثل حكاية من مات أو غُشي عليه عند سماع القرآن، مثل: زرارة بن أوفى، فإنهُ قرأ في صلاة الفجر: ﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ﴾ [المدّثر: 8]، فخرَّ ميِّتًا. ثمَّ قالَ - رَحِمَهُ اَللَّهُ تَعَالَى-: "وكذلك غيره ممن رُوِيَ أنَّهم ماتوا باستماع قراءته، -يعني: القرآن-، وكان فيهم طوائف يُصْعَقُ عند سماع القرآن"، وليس هذا في الصَّحابة - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ-، هذه الحال ليست في الصَّحابة - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ-، فلا الصَّعق والموت ولا الغشي كان موجودًا في أصحاب رسول الله - صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يقول - رَحِمَهُ اَللَّهُ-: "ولذلك لما ظهر أنكره الصَّحابة، كأسماء بنت أبي بكرٍ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا، وكابنها عبد الله بن الزُّبير - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ جَمِيعًا-"، فإنَّهم لما ذُكر لهم ذلك أنكروه، بل أسماء بنت أبي بكرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - لما ذُكرِ لها هذا قالت: "أعوذُ باللهِ من الشَّيطان الرَّجيم". يقولُ شيخُ الإسلامِ - رَحِمَهُ اَللَّهُ -: "والمنكرون لهذا لهم مأخذان"، يعني: الصَّحابة والتَّابعين، من أنكر ذلك من الصَّحابة والتَّابعين كأسماء وابنها، وابن سيرين، "لهم مأخذان"، يعني: لهم سببان، لهم أمران، لهم وجهان في الإنكار: الأول: قالَ: "منهم من أنكر ذلك لأنهُ كان يظنُّ أنَّ ذلك تكلُّفا وتصنُّعا"، ولهذا كان يقول محمد بن سيرين، وكلام ابن المبارك هذا هو كلام محمد بن سيرين بالحرف قبله، فإنهُ قد ذُكِرَ له - رَحِمَهُ اَللَّهُ تَعَالَى- أنَّ قومًا يُصعقون، فقال - رَحِمَهُ اَللَّهُ -: "ما بيننا وبين هؤلاء الذين يُصعقون عند سماع القرآن أن يُقرأ على أحدهم وهو على حائطٌ فإنَّ خرَّ فهو صادقٌ"، يعني: خلِّ يطلع على الجدار الشاهق ويقرأ القرآن وخلوه يطيح، ما يطيح لأنهُ سيموت، فهنا لو تقرأ عليه الختمة كلُّها ما طاح، لأنهُ يحبُّ الحياة، لا يمكن أن يطيح، فلهذا ظنُّوا أنَّهم يفعلون ذلك تكلفًا وتصنعًا، وليسوا بصادقين، فقالَ ابن المبارك هذا، اِقْرأ القرآن وهو على حائطٌ فإنَّ خرَّ فهو صادقٌ. "ما بيننا وبين هؤلاء الَّذين يصعقون عند سماع القرآن أن يُقرأ على أحدهم وهو على حائط" هذا الَّذي بيننا وبينهم من العلامة في الصدق والكذب، "ما بيننا وبين هؤلاء الذين يُصعقون عند سماع القرآن والذِّكر أن يُقرأ على أحدهم وهو على حائطٍ، فإنَّ خرَّ، -طاحَ - فهو صادقٌ"، تنكسر عنقه وهو لا يدري فهو صادقٌ، أُخِذَ فغلبه الصَّعق، وإلاَّ فهو كاذبٌ، فكان طائفة من السَّلف، بل من أنكرَ من السَّلف على هؤلاء هذا مأخذه الأوَّل. والمأخذ الثَّاني: أنَّهم رأوْهُ أنهُ بدعةٌ مخالفةٌ لما عُرِفَ عن أصحاب رسول الله - صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنَّهم - رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمْ- كانوا يَقرأ عليهم القرآن أفضل الخلق، وهو النبي - صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو أحسن الخلق قراءةً، وأحسنهم وأحلاهم وأعذبهم صوتًا، - صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومع ذلك ما كانوا يُصعقون، ولا يُغشى عليهم، فهذا هو الوجه الثَّاني. فكلُّ من أنكر من الصَّحابة، والتَّابعين كابن سيرين وغيره، وكابن المبارك، وكالفُضيل وغيره، هذا مأخذه، إمَّا لأنَّهم ظنُّوا أنَّ هؤلاء ليسوا صادقين، وأيضًا إضافةً إلى هذا الظَّنّ بعد ما قالوا فيه هذه المقالات الَّتي سبق ذكرها، كانوا - رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمْ - يعتقدون أنهُ على خلاف هدي الصَّحابة، ولو كان خيرًا، لسبقونا إليه، ثمَّ فصَّل شيخ الإسلام - رَحِمَهُ اَللَّهُ تَعَالَى - في هذه المسألة، فقالَ - رَحِمَهُ اَللَّهُ -: "والَّذي عليه جمهور العلماء أنَّ الواحد منْ هؤلاء إذا كان مغلوبًا عليه، لم يُنكر عليه" الواحد من هؤلاء إذا غُشي عليه عند سماع القرآن مثل زرارة بن أوفى ومن كان على نحوه وشاكلته، من غلبهُ هذا الأمر، ولم يستطع التَّحكُّم في نفسه فهذا لا يُنكر عليه، يقول شيخ الإسلام - رَحِمَهُ اَللَّهُ -: "لا يُنكر عليه إذا كان مغلوبًا لم يُنكر عليه، وإن كان الثَّبات أكمل منه" الثَّبات أكمل منه، لماذا؟ لأنهُ حال الصَّحابة- رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمْ - وما كان هؤلاء ليكونوا بأفضل منهم، "ولو لقوا الله بكل عملٍ صالحٍ" كما قال الإمام أحمد، فهذا قول شيخ الإسلام - رَحِمَهُ اَللَّهُ تَعَالَى – بالتَّفصيل. يقول: الذي عليه الجمهور، جماهير أهل العلم، جمهور العلماء، أنَّ الواحد من هؤلاء إذا كان مغلوبًا عليه، يعني: بالقوَّة، ضَعُفَ قلبه عن تحمل الوارد عليه من الذكر، فيقول هذا لا يُنكر عليه، وإن كان حال الثَّبات أفضل، مع هذا لم يُنكر عليه، لكن حال الثبات أفضل من حاله، فلا تظنّ أنَّ حاله أفضل؛ لا، هو معذور لأنه ضَعُف، لكن! حال السَّلف هو الثَّبات أكمل منه، حال الصَّحابة- رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمْ - أكمل منهم، ما معنى هذا؟ معناه: لا تنخدعوا فتظنُّوا أنَّ هؤلاء أكثر خشوعًا من الصَّحابة؛ أفضل حالًا من الصَّحابة، هذا معنى الكلام، ولو حصل منهم هذا، هم معذورون لضعفهم، وحال السَّلف -وهم الصَّحابة- أفضل وأكمل، حال الثَّبات، لِمَ؟ لأنهُ مهما عملَ هؤلاء لن يكونوا أفضل منهم، أليس كذلك؟ هذا هو، فنحن نَعذرهُ، من كان مغلوبًا وهو صادقٌ نحن نَعذرهُ ولا نُنكر عليه، لكن! نقول: هو مع هذا لا تغتروا، ليس حاله هذه بأفضل مِن حال أصحاب رسول الله - صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلهذا يقولُ شيخُ الإسلامِ: "لم يُنكر عليه وإنْ كان حال الثَّبات أكمل منه". ثمَّ قالَ- رَحِمَهُ اَللَّهُ -: "ولهذا لمّا سُئِل الإمام أحمد عن هذا" عن الغُشيّ، عن الصَّعق عند قراءة القرآن، فقالَ- رَحِمَهُ اَللَّهُ - يعني: أحمد "قُرئ القرآن على يحيى بن سعيد القطّان فغُشِيَ عليه"، ويحيىٰ بن سعيدٍ القطَّان من أهل البصرة، لأنَّ هذا شاعَ فيهم، ويحيىٰ بن سعيدٍ القطَّان مع إمامته، وزُهده، وورعه، وعلمه، ومن أهل البصرة، يقول أحمد - رَحِمَهُ اَللَّهُ -: "قُرِئ القرآن على يحيىٰ بن سعيدٍ القطّان فغُشِيَ عليه، ولو قدر أن يدفع هذا عن نفسه لدفعه يحيىٰ بن سعيد، فما رأيتُ أعقل منه". ثمَّ ذكر شيخ الإسلام كلامًا أيضًا وصُوَرًا إلى أنْ قال: "وقد نُقِل عن الشَّافعي أنهُ أصابهُ ذلك"ـ إلى أن قال: "وبالجملة: فهذا كثيرٌ لا يُستغرب ممَّن لا يُستراب في صدقه"، يعني: هذا نُقل كثيرٌ منه عن بعض العبَّاد، والصُّلحاء ممَّن لا يُستراب في صدقهم. ثمَّ عقَّب مرَّةً أخرى عليه فقالَ: "لكن! الأحوال الَّتي كانت في الصَّحابة هي المذكورة في القرآن، وهي وجل القلوب، ودموع العين، واقشعرار الجلود"، يعني: مع أنهُ حصل من هؤلاء الأخيار العبَّاد الصَّادقين الَّذي لا يُستراب في صدقهم، لكن! حال الصَّحابة - رَضِيَ اَللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - هو ما ذكره ربُّنا - تَبَارَكَ وَتَعَالَى -، وجل القلوب، ودموع العين، واقشعرار الجلود، وهذا في قوله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى -: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّـهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾[الأنفال: 2]. وقوله -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَـٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾[مريم: ٥٨]، وقوله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: ﴿اللَّـهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّـهِ﴾ [الزمر: ٢٣]، والآيات في هذا كثيرة، فهذا في حال الصَّحابة - رَضِيَ اَللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ. وجاء عن أنس بن مالكٍ أيضًا - رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ- أنهُ لما ذُكِرَ له هذا، يعني: الصَّعق عند قراءة القرآن، فقالَ - رَضِيَ اَللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ-: "هذا فِعل الخوارج" لمَّا سألوه عن أقوامٍ يُصعقونَ؟ قالَ: "أولئك الخوارج". وقد جاء أيضًا عند المصنِّف في "الإبانة الكبرى" عن قيس بن جبيرٍ، قالَ: "الصَّعقةُ عند القُصَّاص من الشَّيطان". يعني: عند القُصَّاص والمذكِّرين هذا من الشَّيطان. |
|
|